دويتشه فيله: كيف تقيم العمل الإعلامي لقناة الجزيرة الإخبارية الفضائية على مدى 15 عاما؟
ياسر عبد العزيز: في الواقع حينما ظهرت قناة الجزيرة، قبل عقد ونصف، في الفضاء الإعلامي العربي كانت بمثابة حجرة كبيرة ألقيت في بركة راكدة. الجزيرة حركت الكثير من التفاعلات ورفعت من أسقف الأداء الإعلامي في العديد من دول المنطقة وأعطت تعبيراً جيداً عن الإعلام العربي بشكل عام وعن قدرة الدولة القطرية في تحقيق الاختراق في الميدان الإعلامي بشكل خاص، خصوصا حينما طورت ذراعها الإخبارية باللغة الإنجليزية أو الجزيرة الدولية. الجزيرة كانت ربما أحد أبرز العلامات والمفاصل الرئيسية التي مر بها الإعلام العربي منذ نشأته وربما لها أيادي بيضاء كبيرة على صناعة الإعلام في الدول العربية وعلى صورة الإعلام العربي في الخارج. كما استطاعت تغيير توجهات الجمهور إزاء ملفات عديدة تتعلق بالسياسة الدولية وبالعلاقات الدولية وحتى ببعض السياسيات المحلية في بعض البلدان. لكن كل هذه الاشراقات وهذه المزايا الكبيرة التي صدرتها الجزيرة للواقع العربي يشوبها الكثير من أنماط الإنحياز...
أنت تحدثت هنا عن أياد بيضاء، ماذا تعني بذلك؟
الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز في مقابلة مع دويتشه فيلهأقصد أن الجزيرة قد غيرت قواعد اللعبة الإعلامية لأنها رفعت سقف الأداء الإعلامي. حينما طلت الجزيرة جاءت بشعار يقول "الرأي والرأي الآخر". ولم يكن هذا الرأي الآخر الذي تبنته الجزيرة سوى رأي مطموس أو في أفضل الأحوال مُعتم عليه ومشوش عليه من قبل الأنظمة التي طالما تحكمت في قنوات الإعلام في البلدان العربية. وأصبحنا نرى مثلا أن المعارضة التونسية تتكلم من لندن؛ أي المعارضة المهمشة الإسلامية التي تبين فيما بعد أنها تحظى بجزء غير قليل (من التأييد ـ المحرر) داخل المجتمع التونسي. كما نعرف أن المعارضة المغربية كانت مقصاة من الحياة السياسة في المغرب، واليوم أصبحت تتكلم من المنفى في فرنسا وغيرها. وكذلك أصوات من المعارضة السعودية والليبية. كذلك جماعة الإخوان المسلمين التي تم إقصاؤها بالكامل من المشهد السياسي المصري وحظرت إعلاميا وسياسيا، لكن الجزيرة أتاحت لها مكانا، حتى أولئك الذين استخدموا العنف مثل الجماعات الجهادية وعلى رأسها تنظيم القاعدة، كانت الجزيرة تجد لهم منفذا. الجزيرة رفعت سقف الأداء الإعلامي العربي وأجبرت من يريد منافستها على زيادة الهوامش المتاحة وفتح الباب أمام الأطراف التي كانت مغمورة ومعتم عليها أي للمحظورين والمقصيين ليظهروا على شاشات التلفزيون.
إذن، هل هذا هو سر نجاح قناة الجزيرة؟
لا، هناك أسرار وليس سرا واحدا. في الواقع هناك عوامل كثيرة للنجاح. أولا: الجزيرة تنفق أحيانا بلا حساب وبالتالي ترهق منافسيها وتتعبهم على اللحاق بها. لأن الجزيرة لم تكن سوى مشروع سياسي له طابعاً إعلامياً وبالتالي تم رصد موارد مالية ضخمة له. ثانيا: الجزيرة استخدمت كوادر خرجت من مدارس إعلامية عريقة جدا، مثل قناة البي.بي.سي. وبالتالي فلها خبرة بشرية كبيرة جدا ومختبرة وعلى إلمام واهتمام واسعين بالمجال العربي بالكامل وإحساس إقليمي وليس محلي. ثالثا: الجزيرة انطلقت من دولة صغيرة جدا ولكنها ذات موقع جغرافي مهم وتمتلك الحيوية لتحول ضعفها إلى قوة، اذ بإمكانها المشاكسة والضغط هنا وهناك دون أن تحاسب لأنها ليست دولة كبيرة لها أعباء إقليمية. رابعا: فشل المنافسين في منافسة الجزيرة وانصياع الإعلام العربي بشكل عام للحكومات والأنظمة العربية بشكل أو بآخر، وبالتالي فإن الجزيرة قد استفادت من ضعف المنافسين. خامسا: عندما تم إطلاق الجزيرة لأول مرة كان العالم العربي في حالة فوران وبالتالي فإن الطلب على صناعة الأخبار بدلا عن صناعة الترفيه كان كبيرا جدا. هذه هي العوامل التي صنعت نجاح الجزيرة وجعلتها تشغل الناس.
أنت قلت أن الجزيرة مشروع سياسي له طابعاً إعلامياً، ماذا تقصد بذلك؟
أقصد أن قطر طورت الجزيرة كذراع إخبارية لتزيد من قوتها الشاملة ولكي تستخدمها أحيانا في تحقيق بعض الأهداف السياسية. ولا لوم على قطر في تطوير مثل هذه الذراع الإخبارية، ولكني أنتقد قطر في استخدام هذه الذراع أحيانا بعجلة وتهور، وفي أحيان أخرى بعدم الالتزام بحد أدنى من العدالة والحياد.
هل لديك أمثلة على هذا الكلام؟
مثلا الجزيرة لم تغط أحداث البحرين بنفس القدر الذي تغطي به أحداث سوريا. أتصور أيضا أن بعض المشكلات تحدث في الجارة الكبيرة المملكة العربية السعودية ولا تُلقى عليها نفس الأضواء التي تُلقى مثلا على المشكلات التي تحدث في مصر. أتصور أن مشكلة كانت قائمة بين مصر وقطر طوال 15 عاما تسببت في أن تتخذ التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة لأحداث الثورة المصرية طابعا تحريضيا بمفهوم الحكم المصري السابق. أنا أؤيد الثورة المصرية وأرحب بكل دعم إعلامي لها، ولكني أرى أن الجزيرة كانت تغطي الثورة المصرية كطرف منخرط فيها أو كجزء من الثورة ولم تكن تغطيها كوسيلة إعلامية تحاول أن تنقل ما يحدث بأقصى درجة ممكنة من التوازن والحياد. دورها مختلف تماما عن دورها في مصر في تغطية الأحداث في البحرين أو في عُمان. كما غابت الجزيرة عن تغطية الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة الشرقية في السعودية. أنا أحي الجزيرة لتغطيتها للكثير من الأحداث المهمة في العالم العربي ولكني أريد منها أن تتبع مبدأ التكافؤ والتوازن والحيادية.
أنت تقول ما معناه إن الجزيرة لعبت دورا مهما في الثورات العربية، لكنها غضت النظر عن أحداث مهمة أيضا في عدد من دول المنطقة مثل السعودية والبحرين وعُمان وغيرها. كيف تفسر ذلك؟
أنا بإمكاني سوى التحليل والاستنتاج وليس لدي أكثر من ذلك. وتحليلي أن تغطية الجزيرة لبعض الأحداث في بلدان عربية مختلفة تخضع لحسابات سياسية أكثر مما تخضع لحسابات مهنية. ورغم إنجازات الجزيرة إلا أنه يجب أيضا الإشارة إلى أن تغطية الجزيرة تخضع لحسابات سياسية لدولة قطر. وأعتقد أن قطر حينما تريد القيام بأي عمل سياسي معين ضد نظام بشار الأسد مثلا أو قيادة حركة سياسية من خلال مجلس جامعة الدول العربية لإيجاد حل للأزمة السورية فإنها أحيانا تنسق بين عملها الميداني وبين تغطية الجزيرة للأحداث. وحينما تكون قطر عازمة على حماية النسيج السني في الخليج وبذلك بدافع أنها لا تريد المساهمة في تأجيج أزمات ينظر إليها على أنها ذات طابع طائفي مثلما هو الأمر في البحرين أو السعودية، فإن التغطية الإعلامية للجزيرة تلتزم أيضا بهذا التصور السياسي.
البعض يرى أن الجزيرة قد ساهمت بشكل كبير في "صنع" الثورات العربية، فما رأيك بذلك؟
الجزيرة ساهمت في دفع الثورات العربية نحو النجاح. وهذا من الأمور التي تُحسب عليها وليس لها. لأن المفروض أن يكون دورها محايد يتعلق بنقل الأخبار وشرحها للجمهور وليس أن تتحول إلى أداة فعل مباشرة. أنا أقدر دور الجزيرة في إسقاط أنظمة ديكتاتورية قمعية في تونس ومصر وغيرها. ولكني أخشى أن الجزيرة التي حاربت أعداء اليوم وانتصرت للثورة ضد الطغيان أن تنصر غدا الطغيان. أنا أفضّل أن تكون الجزيرة وسيلة إعلام وليست وسيلة فعل سياسي.
كيف تقيم وزن قطر اليوم بعد 15 عاما من إطلاق قناة الجزيرة؟
أعتقد أن قطر أصبحت لاعبا له وزنه في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي. ووفقا لآخر الأخبار فهي تقود اليوم التحرك العربي باتجاه حل الأزمة السورية. وقبلها أعلنت مشاركتها على الأرض فيما يُسمى بتحرير ليبيا. كما لعبت دورا مهما في الثورة المصرية من خلال ذراعها الإعلامية الجزيرة. وأعتقد أن دور قطر على الصعيد الإقليمي في تصاعد ويبدو أنه يحدوه طموح بلا سقف. أرى أنه يتعين على قطر تعزيز دور الجزيرة داخل الأطر المهنية والأخلاقية (...) أفضل من حرق نجاحها من خلال الاستخدام السياسي.
أجرت الحوار: شمس العياري
مراجعة: عبده جميل المخلافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق